التعامل مع شياطين الإنس والجن


من سنن الله تعالى العداوة المتأصلة بين الصالحين من بني البشر وشياطين الإنس والجن، فالأنبياء عليهم السلام لا يخلو واحداً منهم من عداوة شياطين الإنس والجن، كما قال الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ [الأنعام:112]، وإذا كان هذا مع الأنبياء عليهم السلام، فلا شك أنه سيكون مع أتباعهم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فيا ترى ما هو السبيل للتعامل مع هاتين الفئتين؟
نرجع إلى كتاب ربنا لنجد ذلك في قوله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[الأعراف:199-200]، وفي هاتين الآيتين بيان واضح للسبيل معهم.
يقول العلامة الشنقيطي: "بين في هذه الآية الكريمة ما ينبغي أن يعامل به الجهلة من شياطين الإنس والجن، فبين أن شيطان الإنس يعامل باللين، وأخذ العفو، والإعراض عن جهله وإساءته. وأن شيطان الجن لا منجى منه إلا بالاستعاذة بالله منه، قال في الأول: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف:119]، وقال في الثاني: ﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأعراف:200]، وبين هذا الذي ذكرنا في موضعين آخرين:
أحدهما: في سورة قد أفلح المؤمنون، قال فيه في شيطان الإنس: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ﴾ [المؤمنون:96].
وقال في الآخر: ﴿﴿وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ﴾ [المؤمنون:97-98].
والثاني: في حم (السجدة) قال فيه في شيطان الإنس: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾[فصلت:34]، وزاد هنا أن ذلك لا يعطاه كل الناس، بل لا يعطيه الله إلا لذي الحظ الكبير والبخت العظيم عنده، فقال: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾[فصلت:35]، ثم قال في شيطان الجن: ﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [فصلت:36]"(1).
إذن فالسبيل مع شياطين الإنس يتلخص في ثلاثة أمور:
الأمر الأول: في قوله تعالى: ﴿خذ العفو﴾، والأخذ حقيقته تناول شيء للانتفاع به أو لإضراره، كما يقال: أخذت العدو من تلابيبه... فمعنى ﴿خذ العفو﴾: عامل به واجعله وصفا ولا تتلبس بضده... والعفو الصفح عن ذنب المذنب وعدم مؤاخذته بذنبه.. والمراد به هنا ما يعم العفو عن المشركين وعدم مؤاخذتهم بجفائهم ومساءتهم الرسول والمؤمنين.
وقد عمت الآية صور العفو كلها؛ لأن التعريف في العفو تعريف الجنس، فهو مفيد للاستغراق إذا لم يصلح غيره من معنى الحقيقة والعهد.(2)
الأمر الثاني: في قوله تعالى ﴿وأمر بالعرف﴾، قال الحافظ ابن كثير:" وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباده بالمعروف، ويدخل في ذلك جميع الطاعات، وبالإعراض عن الجاهلين، وذلك وإن كان أمرا لنبيه صلى الله عليه وسلم فإنه تأديب لخلقه باحتمال من ظلمهم واعتدى عليهم، لا بالإعراض عمن جهل الحق الواجب من حق الله، ولا بالصفح عمن كفر بالله وجهل وحدانيته، وهو للمسلمين حرب".(3)
ومن الطاعات التي تدخل في ذلك دخولاً أولياً، ما ذكره الإمام ابن جرير في تفسيره عن سفيان بن عيينة عن أمَيّ قال: لما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف:119]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما هذا يا جبريل؟ قال: إن الله يأمرك أن تعفوَ عمن ظلمك، وتعطيَ من حرمك، وتصل من قطعك»(4).
قال العلامة السعدي: "﴿وأمر بالعرف﴾ بكل قول حسن وفعل جميل، وخلق كامل للقريب والبعيد، فاجعل ما يأتي إلى الناس منك، إما تعليم علم، أو حث على خير، من صلة رحم، أو بِرِّ والدين، أو إصلاح بين الناس، أو نصيحة نافعة، أو رأي مصيب، أو معاونة على بر وتقوى، أو زجر عن قبيح، أو إرشاد إلى تحصيل مصلحة دينية أو دنيوية"(5).
الأمر الثالث: في قوله تعالى:﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾.
فالإعراض: إدارة الوجه عن النظر للشيء، مشتق من العارض وهو الخد، فإن الذي يلتفت لا ينظر إلى الشيء؛ وقد فسر ذلك في قوله تعالى: ﴿أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ﴾ [الإسراء:83] وهو هنا، مستعار لعدم المؤاخذة بما يسوء من أحد، شبه عدم المؤاخذة على العمل بعدم الالتفات إليه في كونه لا يترتب عليه أثر العلم به لأن شأن العلم به أن تترتب عليه المؤاخذة.
و(الجهل) هنا ضد الحلم والرشد، وهو أشهر إطلاق الجهل في كلام العرب قبل الإسلام، فالمراد بالجاهلين السفهاء كلهم؛ لأن التعريف فيه للاستغراق، وأعظم الجهل هو الإشراك؛ إذ اتخاذ الحجر إلها سفاهة لا تعدلها سفاهة، ثم يشمل كل سفيه رأي، وكذلك فهم منها الحر بن قيس، وأقره عمر بن الخطاب على ذلك الفهم.
وقد جمعت هذه الآية مكارم الأخلاق؛ لأن فضائل الأخلاق لا تعدو أن تكون عفوا عن اعتداء فتدخل في ﴿خذ العفو﴾، أو إغضاء عما لا يلائم فتدخل في ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾، أو فعل خير واتساما بفضيلة فتدخل في ﴿وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾ كما تقدم من الأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء، وهذا معنى قول جعفر بن محمد:" في هذه الآية أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها، وهي صالحة لأن يبين بعضها بعضا، فإن الأمر بأخذ العفو يتقيد بوجوب الأمر بالعرف، وذلك في كل ما لا يقبل العفو والمسامحة من الحقوق، وكذلك الأمر بالعرف يتقيد بأخذ العفو وذلك بأن يدعو الناس إلى الخير بلين ورفق"(6).
وقد أخذ بعض الحكماء معنى هذه الآية، فسبكه في بيتين فقال:
خذ العفو وأمر بعرف كما *** أمرت وأعرض عن الجاهلين
ولن في الكلام لكل الأنام *** فمستحسن من ذوي الجاه لين(7)
فإن قال قائل: هل حكم هذه الآية منسوخ لا سيما وأنه يعارض الأمر بالقتال؟
يجيب عن هذا إمام المفسرين ابن جرير الطبري فيقول: "لا دلالة عندنا على أنه منسوخ، إذ كان جائزًا أن يكون، وإن كان الله أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم في تعريفه عشرةَ من لم يُؤْمَر بقتاله من المشركين مرادًا به تأديبُ نبيّ الله والمسلمين جميعًا في عشرة الناس، وأمرهم بأخذ العفو"(8).
وقد فهم الحر بن قيس منها عدم النسخ، وأقره عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ كما جاء فيما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "قدم عيينة بن حصن بن حذيفة فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته، كهولا كانوا أو شبانا، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي! هل لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: فاستأذن الحر لعيينة فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب! فوالله ما تعطينا الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى هم أن يوقع به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين! إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: 199]، وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا عند كتاب الله"(9).
أما النوع الثاني من الشياطين وهم شياطين الجن فإنهم لا يندفعون بمثل ما يندفع به إخوانهم من شياطين الإنس من التعامل معهم برفق ولين؛ ولذلك كان التوجيه الرباني لسيد المرسلين عليه الصلاة والسلام لدفعهم هو الاستعاذة بالله منهم، قال تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأعراف:200]. أي: وإما يغضبنك من الشيطان غضب يصدُّك عن الإعراض عن الجاهلين، ويحملك على مجازاتهم. ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾، يقول: فاستجر بالله من نزغه ﴿إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، إن الله الذي تستعيذ به من نزع الشيطان ﴿سَمِيعٌ﴾ لجهل الجاهل عليك، لاستعاذتك به من نزغه، ولغير ذلك من كلام خلقه، لا يخفى عليه منه شيء ﴿عَلِيمٌ﴾ بما يذهب عنك نزغ الشيطان، وغير ذلك من أمور خلقه(10).
وفي حديث سليمان بن صرد رضي الله عنه قال: كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم ورجلان يستبان، فأحدهما احمر وجهه، وانتفخت أوداجه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان، ذهب عنه ما يجد» فقالوا له: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تعوذ بالله من الشيطان، فقال: وهل بي جنون(11).
فهذان دليلان واضحان على أن شيطان الجن يندفع بالاستعاذة، والله أعلم.

إن مع العسر يسرا

تعليقات